فصل: الْعِبْرَةُ الْعَامَّةُ فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم ذكروا أنهم إنما لم يريدوا به المكروه ولم يوقعوا به الشر لأجل رهطه- والرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى السبعة- والرجم شر القتل وهو الرمي بالحجارة، أو المراد الطرد والإبعاد ومنه الشيطان الرجيم. ثم أكدوا المذكور بقولهم: {وما أنت علينا بعزيز} وإنما العزيز علينا رهطك لا خوفًا من شوكتهم ولكن لأنهم من أهل ديننا، فالكلام واقع في فاعل العز لا في الفعل وهو العز ولذلك قال في جوابهم: {أرهطي أعز عليكم من الله} ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب، وإنما لم يقل أعز عليكم مني إيذانًا بأن التهاون بنبي الله كالتهاون بالله كقوله: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80]: {واتخذتموه} أي أمر الله أو ما جئت به: {وراءكم ظهريًا} منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب أي جعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر غير ملتفت إليه. ثم وصف الله تعالى بما يتضمن الوعيد في حقهم قال: {إن ربي بما تعملون محيط}. ثم زاد في الوعيد والتهديد بقوله: {اعملوا على مكانتكم} وقد مر تفسير مثله في الأنعام قال في الكشاف: الاستئناف يعني في: {سوف تعلمون} وصل خفي تقديري وإنه أقوى من الوصل بالفاء وهو باب في أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه. ثم بالغ في التهديد بقوله: {وارتقبوا} انتظروا عاقبة الشقاق: {إني معكم رقيب} راقب كالضريب بمعنى الضارب، أو مراقب كالعشير والنديم، أو مرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. وباقي القصة على قياس قصة صالح وأخذ الصيحة وأخذت الصحية كلتا العبارتين فصيحة لمكان الفاصل إلا أنه لما جاء في قصة شعيب مرة الرجفة ومرة الظلة ومرة الصيحة ازداد التأنيث حسنًا بخلاف قصة صالح. وإنما دعاه عليه بقوله: {كما بعدت ثمود} لما روى الكلبي عن ابن عباس قال: لم يعذب الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح. فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم. قوله سبحانه: {بآياتنا وسلطان مبين} قال في التفسير الكبير: الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات المفيدة للظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين. والسلطان اسم لما يفيد القطع وإن لم يتأكد بالحس، والسلطان المبين مخصوص بالدليل القاطع الذي يعضده الحس. وقال في الكشف: يجوز أن يراد أن الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته، وأن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها أبهرها، وقوله: {إلى فرعون} متعلق ب: {أرسلنا}، {فاتبعوا أمر فرعون} أي شأنه وطريقه أو أمره إياهم بالكفر والجحود وتكذيب موسى: {وما أمر فرعون برشيد} أي ليس في أمره رشد إنما فيه غي وضلال، وفيه تعريض بأن الرشد والحق في أمر موسى.
ثم إن قومه عدلوا عن اتباعه الى اتباع من ليس في أمره رشد قط، فلا جرم كما كان فرعون قدوة لهم في الضلال فكذلك يقدمهم أي تقدمهم يوم القيامة إلى النار وهم على أثره، ويجوز أن يراد بالرشد الإِحماد وحسن العاقبة فيكون المعنى وما أمر فرعون بحميد العاقبة. ثم فسره بأنه: {يقدم قومه} أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. ويقال: قدمه وقدمه بالتخفيف والتشديد بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش ومثله أقدم ومنه مقدم العين. وإنما قال: {فأوردهم} بلفظ الماضي تحقيقًا للوقوع. والورد المورود الذي وردوه، شبّه فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء، وشبه أتباعه بالواردة. ثم نعى عليهم بقوله: {وبئس الورد} الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده وتذكير: {بئس} لتذكير الورد وإن كان هو عبارة عن النار كقولك: نعم المنزل دارك ولو قلت: نعمت جاز نظرًا إلى الدار. وفي تشبيه النار بالماء نوع تهكم بهم: {وأتبعوا في هذه} حذف صفته في هذه الآية اكتفاء بما مر في قصة عاد. و: {بئس الرفد المرفود} أي بئس العطاء المعطى ذلك. وقيل: الرفد العون والمرفود المعان وذلك أن اللعنة في الدنيا رفدت أي أعينت وأمدت باللعنة في الآخرة، قال قتادة: ترادفت عليهم لعنتان لعنة من الله والملائكة واللاعنين في الدنيا ولعنة في الآخرة: {ذلك} الذي ذكرنا أو ذلك النبأ بعض: {أنباء القرى} المهلكة: {نقصه عليك} خبر بعد خبر، ثم على ساقه وبعضها عافي الأثر كالزرع المحصود: {وما ظلمناهم} بإهلاكنا إياهم: {ولكن ظلموا أنفسهم} بارتكاب ما به أهلكوا. عن ابن عباس: وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله: {فما أغنت} فما قدرت أن ترد: {عنهم آلهتهم التي يدعون} يعبدون وهي حكاية حال ماضية بأس الله حين جاء: {وما زادوهم} يعني آلهتهم: {غير تتبيب} تخسير. تب خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران. كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين في الدنيا على تحصيل المنافع ودفع المضار وستنفعهم عند الله في الآخرة فلم تنفعهم في الدنيا حين جاءهم عذاب الله وسيورثهم ذلك الاعتقاد عذاب النار في الآخرة فهم في خسران الدارين. ثم بيَّن أن عذابه غير مقصور على أولئك الأقوام ولكنه يعم كل ظالم سيوجد فقال: {وكذلك} أي مثل ذلك الأخذ: {أخذ ربك} فالأخذ مبتدأ وذلك خبره وقوله: {وهي ظالمة} حال من القرى باعتبار أهلها: {إن أخذه أليم شديد} وجيع صعب على المأخوذ وهو تحذير من وخامة عاقبة كل ظلم على الغير أو على النفس فعلى العاقل أن يبادر إلى التوبة ولا يغتر بالإمهال. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بِآيَاتِنَا التِّسْعِ الْمَعْدُودَةِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْمُفَصَّلَةِ فِي غَيْرِهَا (وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ)، {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أَيْ وَبُرْهَانٍ وَاضِحِ الْبَيَانِ، وَهُوَ مَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ فِي مُحَاوَرَاتِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: هِيَ الْعَصَا لِأَنَّهَا أَكْبَرُ آيَاتِهِ، وَعَطَفَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَلَكِنَّ اللهَ قَالَ: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} 43: 48 {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمَلَأَ أَشْرَافُ الْقَوْمِ وَزُعَمَاؤُهُمْ، وَأَضَافَهُمْ إِلَى فِرْعَوْنَ وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالِاسْتِشَارَةِ فِي دَوْلَتِهِ الَّذِينَ يَسْأَلُهُمْ رَأْيَهُمْ فِي مُوسَى وَغَيْرِهِ، وَيَعْهَدُ إِلَيْهِمْ بِتَنْفِيذِ مَا يَتَقَرَّرُ مِنَ الْأُمُورِ كَمَسْأَلَةِ السَّحَرَةِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ قَوْمُهُ فِي مَقَامِ الِاتِّبَاعِ لَهُ فِي الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ دُونَ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} فِي كُلِّ مَا قَرَّرَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِمُوسَى، وَجَمْعِ السَّحَرَةِ لِإِبْطَالِ مُعْجِزَتِهِ، وَمِنْ قَتْلِ السَّحَرَةِ لِإِيمَانِهِمْ بِهِ، وَمِنْ تَشْدِيدِ الظُّلْمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِتَقْتِيلِ أَبْنَائِهِمْ وَاسْتِحْيَاءِ نِسَائِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي قِصَّتِهِ مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أَيْ: مَا شَأْنُهُ وَتَصَرُّفُهُ بِذِي رُشْدٍ وَهَدْيٍ، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ، وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ. فِي غُرُورِهِ بِنَفْسِهِ وَكَفْرِهِ بِرَبِّهِ وَطُغْيَانِهِ فِي حُكْمِهِ، وَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي الْآخِرَةِ؟ الْجَوَابُ.
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ يَتَقَدَّمُهُمْ وَيَكُونُونَ تَبَعًا لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا كَانُوا تَابِعِينَ لَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} أَيْ: فَيُورِدُهُمْ نَارَ جَهَنَّمَ مَعَهُ، أَيْ: يُدْخِلُهُمْ إِيَّاهَا، فَالْإِيرَادُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ كَمَا اسْتُعْمِلَ الْوُرُودُ بِمَعْنَى الدُّخُولِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ بِإِغْرَائِهِ إِيَّاهُمْ قَدْ جَعَلَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ آلَهُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا مُنْذُ مَاتُوا صَبَاحًا وَمَسَاءً مِنْ كُلِّ يَوْمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [40: 45 و46].
{وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} هِيَ لِأَنَّ وَارِدَ الْمَاءِ يَرِدُهُ لِتَبْرِيدِ كَبِدِهِ وَإِطْفَاءِ غَلَّتِهِ مِنْ حَرِّ الظَّمَأِ، وَوَارِدُ النَّارِ يَحْتَرِقُ فِيهَا احْتِرَاقًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَيْبَةِ.
الْوُرُودُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بُلُوغُ الْمَاءِ وَمُوَافَاتُهُ فِي مَوْرَدِهِ مِنْ نَهَرٍ وَغَيْرِهِ، وَالْوِرْدِ بِالْكَسْرِ اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ، يُقَالُ: وَرَدَ الْبَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ الْمَاءَ يَرِدُهُ وِرْدًا فَهُوَ وَارِدٌ وَالْمَاءُ مَوْرُودٌ، أَوْرَدَهُ إِيَّاهُ إِيرَادًا جَعَلَهُ يَرِدُهُ، وَمِنْهُ وُرُودُ جَهَنَّمَ بِمَعْنَى دُخُولِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْآيَةِ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ. وَقَالَ: الْوُرُودُ فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَةُ أَوْرَادٍ، فِي هُودٍ قَوْلُهُ: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} 98 وَفِي مَرْيَمَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} 19: 71 وَوَرَدَ فِي الْأَنْبِيَاءِ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 21: 98 وَوَرَدَ فِي مَرْيَمَ أَيْضًا: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} 19: 86 وَكَانَ يَقُولُ: وَاللهِ لَيَرِدَنَّ جَهَنَّمَ كُلُّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} 19: 72.
{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً} أَيْ: وَأُلْحِقَتْ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَعْنَةٌ أَتْبَعَهُمُ اللهُ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} 28: 42 وَقَالَ هُنَا: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ وَأُتْبِعُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَعْنَةً أُخْرَى، فَهُمْ يُلْعَنُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ سَمَّى هَذِهِ رِفْدًا؛ تَهَكُّمًا بِهِمْ فَقَالَ: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} الرِّفْدُ (بِالْكَسْرِ) فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْعَطَاءُ وَالْعَوْنُ: يُقَالُ: رَفَدَهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) أَعَانَهُ وَأَعْطَاهُ، وَأَرْفَدَهُ مِثْلُهُ، أَوْ جَعَلَ لَهُ رِفْدًا يَتَنَاوَلُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَرَفَدَهُ وَأَرْفَدُهُ كَسَقَاهُ وَأَسْقَاهُ، {وَبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} أَيِ الْعَطَاءُ الْمُعْطَى هَذِهِ اللَّعْنَةَ الَّتِي أُتْبِعُوهَا، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الرَّفْدَ بِالْفَتْحِ، الْقَدَحُ وَبِالْكَسْرِ مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَابِ، هُوَ تَفْسِيرٌ لِلْعَامِّ بِالْخَاصِّ مُنَاسِبٌ لِلْوِرْدِ الْمَوْرُودِ قَبْلَهُ. أَيْ بِئْسَ مَا يُسْقَوْنَهُ فِي النَّارِ عِنْدَمَا يَرِدُونَهَا ذَلِكَ الشَّرَابُ الَّذِي يُسْقَوْنَهُ فِيهَا، وَهُوَ مَا وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} 47: 15.
وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَاتِ: أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي الْبَشَرِ فَرَاعِنَةٌ يُغْوُونَ النَّاسَ وَيَسْتَخِفُّونَهُمْ وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ وَيَذِلُّونَ لَهُمْ ذُلَّ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَالْحِمَارِ لِرَاكِبِهِ، وَالْحَيَوَانِ لِمَالِكِهِ، وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا شَيْئًا مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَرُشْدِهِ، وَتَجْهِيلِهِ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، مَعَ وَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} 97 وَبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لَإِتْبَاعِهِمْ لَعْنَةً فِي الدُّنْيَا وَلَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ سَيَقُودُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى النَّارِ، كَمَا قَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَفْقَهُوا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِي آيَةِ مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} 60: 12 وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ». «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ.

.الْعِبْرَةُ الْعَامَّةُ فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ:

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الْعِبْرَةِ الْعَامَّةِ بِمَا فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَوْعِظَةٍ، وَيَتْلُوهَا الْعِبْرَةُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى} أَيْ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْضَ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ، أَيْ أَهَمُّ أَخْبَارِهَا، وَأَطْوَارُ اجْتِمَاعِهَا فِي الْقُرَى وَالْمَدَائِنِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ هَذِهِ السُّورَةِ لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ، وَيَتْلُوَهُ الْمُؤْمِنُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ، لِلْإِنْذَارِ بِهِ تَبْلِيغًا عَنَّا، فَهُوَ مَقْصُوصٌ مِنْ لَدُنَّا بِكَلَامِنَا {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} أَيْ مِنْ تِلْكَ الْقُرَى مَا لَهُ بَقَايَا مَائِلَةٌ وَآثَارٌ بَاقِيَةٌ كَالزَّرْعِ الْقَائِمِ فِي الْأَرْضِ، كَقُرَى قَوْمِ صَالِحٍ، وَمِنْهَا مَا عَفَا وَدَرَسَتْ آثَارُهُ كَالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ فِي الْأَرْضِ كَقُرَى قَوْمِ لُوطٍ.
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أَيْ: وَمَا كَانَ إِهْلَاكُهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ اسْتَحَقُّوا بِهِ الْهَلَاكَ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِشِرْكِهِمْ وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِصْرَارِهِمْ حَتَّى لَمْ يَعُدْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَإِيثَارِ الْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، بِحَيْثُ لَوْ بَقُوا زَمَنًا آخَرَ لَمَا ازْدَادُوا إِلَّا ظُلْمًا وَفُجُورًا وَفَسَادًا، كَمَا قَالَ نُوحٌ عليه السلام: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} 71: 27 وَقَدْ بَالَغَ رُسُلُهُمْ فِي وَعْظِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ، فَمَا زَادَهُمْ نُصْحُهُمْ لَهُمْ إِلَّا عِنَادًا وَإِصْرَارًا، وَأَنْذَرُوهُمُ الْعَذَابَ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ اسْتِكْبَارًا، وَاتَّكَلُوا عَلَى دَفْعِ آلِهَتِهِمُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ إِنْ هُوَ نَزَلَ بِهِمْ {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أَيْ: فَمَا نَفَعَتْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَدْعُونَهَا، وَيَطْلُبُونَ مِنْهَا أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمْ الضُّرَّ بِنَفْسِهَا أَوْ بِشَفَاعَتِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَمَّا جَاءَ عَذَابُ رَبِّكَ تَصْدِيقًا لِنُذُرِ رُسُلِهِ {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أَيْ: هَلَاكٍ وَتَخْسِيرٍ وَتَدْمِيرٍ، وَهُوَ مِنَ التِّبَابِ أَيِ الْخُسْرَانِ وَالْهَلَاكِ: يُقَالُ: تَبَّبَهُ تَتْبِيبًا، أَيْ: أَهْلَكَهُ، وَتَبَّ فُلَانٌ وَتَبَّتْ يَدُهُ، أَيْ خَسِرَ أَوْ هَلَكَ وَتَبًّا لَهُ فِي الدُّعَاءِ بِالْهَلَاكِ، وَمَعْنَى زِيَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ تَتْبِيبًا؛ أَنَّهُمْ بِاتِّكَالِهِمْ عَلَيْهِمُ ازْدَادُوا كُفْرًا وَإِصْرَارًا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ ظَنًّا أَنَّهُمُ يَنْتَقِمُونَ لَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِرَسُولِهِمْ: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} 11: 54.
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَخْذِ بِالْعَذَابِ وَعَلَى نَحْوٍ مِنْهُ أَخْذُ رَبِّكَ لِأَهْلِ الْقُرَى فِي حَالِ تَلَبُّسِهَا بِالظُّلْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ قَوْمٍ {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} أَيْ وَجِيعٌ قَاسٍ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ وَلَا مَنَاصَ، فَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلتَّشْبِيهِ فِيمَا قَبْلَهَا.
أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ». وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِعُمُومِهَا، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ قَلَّمَا يَعْتَبِرُونَ، وَلاسيما إِذَا كَانُوا مَعَ ظُلْمِهِمْ مَغْرُورِينَ بِدِينٍ يَتَحَلَّوْنَ بِلَقَبِهِ، وَلَا يَحْسَبُونَ حِسَابًا لِإِمْلَاءِ اللهِ تَعَالَى وَاسْتِدْرَاجِهِ.

.الْعِبْرَةُ الْعَامَّةُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ:

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}.
هَذِهِ الْبِضْعُ الْآيَاتِ فِي الْعِبْرَةِ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ لِلْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} أَيْ: فِي ذَلِكَ الَّذِي قَصَّهُ اللهُ مِنْ إِهْلَاكِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، وَمَا قَفَّى عَلَيْهِ مِنْ بَيَانِ سُنَّتِهِ فِي الظَّالِمِينَ، لَحُجَّةً بَيِّنَةً وَعِبْرَةً ظَاهِرَةً، عَلَى أَنَّ مَا يَجْرِي فِي خَلْقِهِ مِنْ نِظَامِ سُنَنِهِ هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِبَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ آيَةٌ وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، يَعْتَبِرُ بِهَا فَيَتَّقِي الظُّلْمَ فِي الدُّنْيَا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّ مَنْ عَذَّبَ الْأُمَمَ الظَّالِمَةَ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا كَأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ كَمَا كَانُوا مَغْرُورِينَ، فَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ الْعَامُّ إِنَّمَا نَزَلَ بِمَنْ أَجْمَعَ مِنْهُمْ عَلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ. فَتِلْكَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْأَقْوَامِ دُونَ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ الْأُمَّةَ فِي جُمْلَتِهَا مَا دَامَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّقْوَى، إِذْ كَانَ يُخْرِجُ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ، وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَتَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِظُلْمِهِمْ كَثِيرٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَقَدْ تَكُونُ نَجَاتُهُمْ فِيهَا بِصَلَاحِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الْخَائِفَ هُنَا.
قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَخْصِيصِ الْآيَةِ بِالْخَائِفِ: يَعْتَبِرُ بِهَا لِعِلْمِهِ أَنَّ مَا حَاقَ بِهِمْ أُنْمُوذَجٌ مِمَّا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ- أَوْ يَنْزَجِرُ لَهُ عَنْ مُوجِبَاتِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مِنْ إِلَهٍ مُخْتَارٍ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْآخِرَةَ وَأَحَالَ فَنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ لَمْ يَقُلْ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَجَعَلَ تِلْكَ الْوَقَائِعَ لِأَسْبَابٍ فَلَكِيَّةٍ اتَّفَقَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لَا لِذُنُوبِ الْمُهْلَكِينَ بِهَا. اهـ.
أَقُولُ: ذَكَرْتُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِبْرَةِ بِهَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، أَنَّ كُفَّارَ الْمَادِّيِّينَ وَمَلَاحِدَةَ الْمِلِّيِّينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ عَنْ مُنْكِرِي الْآخِرَةِ فِي عَصْرِهِ، يَقُولُونَ: إِنَّ الطُّوفَانَ حَدَثَ بِسَبَبٍ طَبِيعِيٍّ لَا بِإِرَادَةِ اللهِ وَاخْتِيَارِهِ لِتَرْبِيَةِ الْأُمَمِ، وَإِنَّهُمْ هَكَذَا يَقُولُونَ فِيمَنْ هَلَكُوا بِالرِّيحِ وَبِالصَّاعِقَةِ وَبِخَسْفِ الْأَرْضِ، وَقُلْتُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: إِنَّ حُدُوثَ الْمَصَائِبِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَافَقَةِ لِسُنَنِ اللهِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَحْدَثَ الْأَسْبَابَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِحِكْمَتِهِ لِأَجْلِ عِقَابِ تِلْكَ الْأُمَمِ بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ إِنْذَارُ الرُّسُلِ لِأَقْوَامِهِمْ إِيَّاهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ مَوْعِدَهَا بِالتَّعْيِينِ وَالتَّحْدِيدِ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ اللهُ بِالظَّالِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رُسُلٌ يُطْلِعُهُمْ عَلَى وَقْتِ وُقُوعِهِ لِيُنْذِرُوا النَّاسَ بِهِ اكْتِفَاءً بِإِنْذَارِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 26: 227.
{ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ- فَكَانَ ذِكْرُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ- يَوْمٌ يُجْمَعُ لَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، أَيْ لِأَجْلِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَفِي جَعْلِ جَمْعِ النَّاسِ لَهُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُبَالَغَةٌ، كَانَتْ بِهَا الْجُمْلَةُ هُنَا أَبْلَغَ مِنْ جُمْلَةِ: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} 64: 9 فِي إِثْبَاتِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ سِيقَتْ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ التَّغَابُنِ، أَيْ غَبْنُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِتَفَاوُتِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ الْجَمْعِ لَهُ فِي ذَاتِهِ لِتَصْوِيرِ هَوْلِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} يَشْهَدُهُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ صَارَ هَذَا التَّعْبِيرُ الْوَجِيزُ الْبَلِيغُ مَثَلًا تُوصَفُ بِهِ الْمَجَامِعُ الْحَافِلَةُ بِكَثْرَةِ النَّاسِ، أَوِ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يَكْثُرُ مَنْ يَشْهَدُهَا مِنْهُمْ.
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} أَيْ: وَمَا نُؤَخِّرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَّا لِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مَعْدُودَةٍ فِي عِلْمِنَا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ عَنْ تَقْدِيرِنَا لَهَا بِحِكْمَتِنَا، وَهُوَ انْقِضَاءُ عُمْرِ هَذِهِ الدُّنْيَا، وَكُلُّ مَا هُوَ مَعْدُودٌ مَحْدُودُ النِّهَايَةِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ عَلَى وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ. اهـ.